تحيّة سعيد إلى تحيّة كاريوكا | أرشيف

إدوارد سعيد (1935 - 2003) وتحيّة كاريوكا (1915 - 1999)

 

المصدر: «مجلّة الآداب».

الكاتب (ة): إدوارد سعيد.

زمن النشر: 1 حزيران (يونيو) 1960.

العنوان الأصليّ: «تحيّة إلى تحيّة».

 


 

بين أمّ كلثوم وكاريوكا

كانت أمّ كلثوم أعظم مغنّيات العالم العربيّ في القرن العشرين وأشهرهنّ، ولا تزال أسطواناتها وأشرطتها متوفّرة في كلّ مكان على الرغم من مرور خمسة عشر عامًا على وفاتها. كما أنّ جمهورًا واسعًا من غير العرب قد اطّلع على غنائها، وقد تأتّى لهم ذلك بسبب الوقع المخدّر والكئيب لغنائها من جهة، ولأنّها من جهة ثانية وجه بارز في الحركة العالميّة الساعية إلى إعادة اكتشاف فنّ الشعوب الأصيل. لكنّ أمّ كلثوم، علاوة على ذلك كلّه، قامت بدور بارز في الحركة النسائيّة الصاعدة في العالم الثالث، وذلك بوصفها: "عندليبًا تقيًّا للشرق»، شكّل ظهوره على الملأ نموذجًا لا للوعي الأنثويّ فحسب، بل للّياقة الاجتماعيّة كذلك. لقد جرى الحديث أثناء حياتها عن احتمال كونها سحاقيّة، غير أنّ محض قوّة تأديتها للموسيقى الراقية الموضوعة لشعر عربيّ فصيح قد طغت على مثل تلك الشائعات. وفي مصر، كانت أمّ كلثوم رمزًا حظي بالاحترام على امتداد الوطن، سواءً أثناء الحكم الملكيّ أو بعد الثورة الّتي قادها جمال عبد الناصر.

كانت حياة أمّ كلثوم الفنّيّة فائقة الطول، وكانت عند غالبيّة العرب محطّ احترام بالغ ممزوج بالشيء الأبرز للعيان من الإثارة الّتي مثّلتها الراقصات الشرقيّات. كانت الراقصات شأنهنّ في ذلك شأن المغنّيّة العظيمة نفسها، قد اعتدن أن يؤدّين أدوارهنّ في الأفلام، وعلى خشبات المسارح، وفي الكباريهات، وعلى منصّات الأعراس، وفي غير ذلك من الاحتفالات الخاصّة في القاهرة والإسكندريّة. وفي حين يصعب على المرء أن ’يستمتع‘ حقّ الاستمتاع بمجرّد النظر إلى أمّ كلثوم المكتنزة الصارمة القسمات، فإنّ الراقصات الدقيقات – اللّاتي كانت بديعة مصابني الممثّلة المولودة في لبنان وصاحبة الكباريه، ومدرّبة المواهب الشابّة، نجمتهنّ الأولى – لم يكنّ ليبعثن في الناظر إلّا المتعة الحسّيّة وحدها.

لقد انتهت حياة بديعة، راقصةً، مع الحرب العالميّة الثانية تقريبًا. غير أنّ وريثتها ومريدتها الحقيقيّة قد كانت تحيّة كاريوكا، الّتي أعتقد أنّها أروع راقصة شرقيّة في كلّ الأزمان. وبالرغم من أنّها اليوم قد صارت في الخامسة والسبعين من عمرها وتعيش في القاهرة، فإنّها لا تزال فاعلة في حقليّ التمثيل والتحريض السياسيّ، كما أنّها تبقى - أسوةً بأمّ كلثوم – الرمز الملحوظ لثقافة قوميّة. كانت أمّ كلثوم قد غنّت في عرس الملك فاروق عام 1936، وكانت هذه الحفلة الباذخة عينها هي بداية تحيّة كاريوكا الفنّيّة الّتي أسبغت عليها شهرة لم تفقدها في يوم من الأيّام.

 

الرقص المغوي من غير تصريح

لقد جسّدت تحيّة كاريوكا، في أوج أيّامها، بوصفها الراقصة الأكثر روعة، نمطًا خاصًّا جدًّا من الإغراء، هو الأشدّ سلاسة والأقلّ تصريحًا من بين مجموع الراقصات، وهو – في ميدان الأفلام المصريّة – نمط شديد الوضوح للمرأة الّتي تفتك الناس بسحرها. وحين بحثت عن عدد الأفلام الّتي مثّلت فيها تحيّة بين أوائل الأربعينيّات وعام 1980 تمكّنت من إحصاء مئة وتسعين عنوانًا. وعندما سألتها في القاهرة في ربيع 1989 عن العدد الحقيقيّ لتلك الأفلام عَجِزَتْ عن التذكّر، ولكنّها عبّرت عن اعتقادها بأنّ مجموعها يتجاوز المئتين بكثير. لقد تضمّنت معظم أفلامها الأولى رقصةً واحدة على الأقلّ؛ فالحال أنّ الفيلم المصريّ الّذي لا يزعم انتسابه إلى الفنّ الراقي – وقلّة من الأفلام قد زعمت مثل هذا الزعم – لا بدّ أن يحتوي على ’نمرة‘ مؤلّفة من أغنية ورقصة. وكانت هذه صنعة أشبه ما تكون بباليهات الفصل الثاني من أوبرات باريس القرن التاسع عشر: فقد كانت الباليهات تؤدّى في تلك العروض سواءً لاءمت القصّة أو لم تلائمها. وفي الأفلام المصريّة قد يظهر على الشاشة مذيع فجأة فيذكر اسم مغن وراقصة، ثمّ يكشف المشهد عن نفسه – وغالبًا ما يتمّ هذا الكشف من دون أيّ تسويغ – فإذا به ناد ليليّ أو غرفة استقبال كبيرة، وتشرع الفرقة بالعزف ويبدأ العرض.

لقد قامت تحيّة بمشاهد مماثلة، غير أنّ هذه المشاهد لم تكن سوى مسودّات مختزلة وعديمة الصقل بالمقارنة مع عروضها الكاملة في الكاباريه. وقد شاهدت واحدًا من هذه العروض، وسوف أتذكّره، ما حييت، بوضوح صادم. كان ذلك عام 1950، فقد اكتشف زميل لي مغامر من زملاء المدرسة أنّ تحيّة ترقص في «كازينو بديعة» الصيفيّ الواقع بجانب النيل في حيّ الجيزة – حيث يشمخ اليوم أوتيل الشيراتون - فاشتريت البطاقات، ووصل أربعة فتيان خرق في الرابعة عشرة من عمرهم إلى السهرة الموعودة قبل ساعتين على الأقلّ من الوقت المضروب لابتداء العرض. وكان حرّ ذلك اليوم الحزيرانيّ قد شارف على الذوبان في أمسية عليلة مذرورة ببعض الرياح. وكان «كازينو بديعة» قد امتلأ بالحضور حين أطفئت الأنوار استعدادًا لبروز النجمة، وإذا بالطاولات الّتي يربو عددها على الأربعين قد احتشدت بجمهور جميع أفراده مصريّون من أبناء الطبقة الوسطى الغواة. وكان شريك تحيّة في تلك السهرة المغني عبد العزيز محمود، وهو رجل أصلع توحي هيئته بالتبلّد، يرتدي سترة ليليّة بيضاء. وقد اعتلى هذا المغنّي المسرح وزرع نفسه في كرسيّ من الخشب والأملود موضوع في منتصف خشبة المسرح القديمة، وراح يغنّي برفقة ’تخت‘ يجلس أفراده في أحد جوانب الخشبة. كان اسم الأغنية «منديل الحلو» وتتغنّى أبياتها العصيّة على العدّ – مرّة بعد مرّة وطوال ساعة كاملة تقريبًا – بالمرأة الّتي هدّلت ذلك المنديل وبكت فيه وزيّنت شعرها به.

كانت قد مضت على بدء تلك الأغنية خمس عشرة دقيقة على الأقلّ حين ظهرت تحيّة فجأة على بعد بضع أقدام من عبد العزيز محمود. وكنّا نجلس في أكثر المقاعد بعدًا عن خشبة المسرح، ومع ذلك، فإنّ لباس تحيّة الأزرق اللمّاع الرفّاف قد خطف أبصارنا. ما ألمع برق ثوبها، وما أضبَطَ ثباتها الدائم إذ تقف هناك وعلى وجهها بسمة كلّيّة الهدوء! إنّ جوهر فنّ الرقص العربيّ - يستوى في ذلك مع فنّ مصارعة الثيران - لا يتمثّل في كثرة الحركات الّتي يقوم بها الفنّان بل في قلّتها؛ وحدهم الراقصون المبتدئون، أو المقلّدون اليونانيّون والأمريكيّون البائسون هم الّذين يقومون بالهزهزة والنطنطة الفظيعتين اللتين تعتبران إغراءً رخيصًا وتخلّعًا حريميًّا ليس إلّا.

إنّ جوهر الرقص العربيّ يتمثّل في إحداث الأثر عن طريق الإيحاء بشكل أساسيّ، لا حصريّ، وفي القيام بذلك الإحداث على امتداد فصول يترابط واحدها بالآخر من خلال المواضيع المتكرّرة والأمزجة المتراوحة؛ وهذا ما فعلته تحيّة تلك الليلة من خلال عملها المتكامل. لقد كان موضوع تحيّة الأساسيّ في «منديل الحلو» هو علاقتها بعبد العزيز محمود الغافل عنها إلى حدّ بعيد. فهي تنزلق من ورائه في ما هو يدندن أغانيه برتابة، وهي تبدو وكأنّها ستخرّ بين يديه، وهي تقلّده وتسخر منه – وإنّها لتفعل ذلك كلّه من غير أن تلمسه أو تستثير ردّه على الإطلاق.

كانت ستائرها الشفافة تتهدّل على البكّيني الملطّف، الّذي كان أساسيًّا بالنسبة لجهازها الفنّيّ لكنّه لم يهدف إلى أن يصبح، في أيّ وقت من الأوقات، محطّ الأنظار في ذاته. كان جمال رقصها يكمن في تكامله؛ في الإحساس الّذي تنقله إلينا بجسد مذهل في لدونته وتناسقه، جسد يتماوج عبر سلاسل معقّدة، وإن كانت تزيينيّة، من العوائق المصنوعة من الشاش والأحجبة والقلائد والأسلاك الذهبيّة والفضّيّة، الّتي كانت حركات تحيّة تنفخ فيها الحياة عمدًا، وأحيانًا على نحو يكاد أن يكون نظريًّا. إنّها لتقف، على سبيل المثال، وتبدأ بتحريك وركها اليمنى ببطء، باعثةً الحركة في طِمَاقَيْها الفضّيّين، في ما الخرز يتهدّل على الجانب الأيمن من خصرها. وإذ تقوم بهذا كلّه، فإنّها تنحدر بنظرها إلى أجزاء جسدها المتحرّكة، فتدعونا إلى تثبيت نظراتنا المحدّقة، بدورها، إلى تلك الأجزاء. فكأنّنا جميعًا نشاهد مسرحيّة صغيرة منفصلة، شديدة الضبط من الناحية الإيقاعيّة، معيدين ترتيب جسدها بحيث يتمّ تسليط الضوء على جانبها الأيمن الّذي يكاد أن يكون منفصلًا عن باقي جسدها.

لقد كان رقص تحيّة شبيهًا بعَرْبَسَة حول عبد العزيز الجالس على كرسيّه. لم تنطّ على غير طائل، ولم ترقّص نهديها بابتذال، ولم تدفع بحوضها إلى الأمام دفعًا فظًّا، ولم تتمايل بوركيها عبثًا. لقد كان ثمّة تروّ مهيب في كلّ مراحل رقصها، حتّى أثناء المقاطع الأكثر سرعة. وكان كلّ واحد منّا يعلم أنّه في قلب تجربة تهييجيّة شديدة الإثارة، لأنّ الإثارة فيها مؤجّلة إلى ما لا نهاية؛ تجربة لم نكن نحلم أن نواجه مثيلًا لها في حياتنا الفعليّة. هذه هي الحكاية بالضبط؛ لقد كنّا أمام جنس في مناسبة عامّة، جنس مبرمج ومنفّذ ببراعة، لكنّه جنس عصيّ على التحقّق والبلوغ.

 

البسمة الّتي تختزل الرغبة

قد يلجأ بعض الراقصين إلى البهلوانيّات، أو إلى السعي على الأرض من مكان لآخر، أو إلى التعرّي الملطّف. غير أنّ تحيّة لم تكن تقوم بشيء من ذلك كلّه، وهي الّتي توحي رشاقتها وأناقتها بالأصالة والمهابة الكلّيّة. إنّ المفارقة تكمن في أنّ تحيّة كانت تثير الغرائز الحسّيّة على الفور، لكنّها كانت في الوقت نفسه نائية يستحيل على المرء أن يقترب منها أو ينالها.

في عالمنا المكبوح، فإنّ تلكم الصفات تعزّز الانطباع الّذي تبعثه في الرائي. أذكر على وجه الخصوص أنّها كانت ترسم على وجهها، منذ بداية رقصها وعلى امتداد عرضها كلّه، ما بدا وكأنّه بسمة صغيرة غارقة في ذاتها. وكان فمها أكثر انفتاحًا ممّا يكون عليه في العادة عند الابتسام؛ فكأنّها كانت تتأمّل جسدها، على خلوة، مستمتعة بحركاته. لقد خفّفت بسمتها كلّ ما اتّصل بالمشهد وبرقصها من تكلّف مسرحيّ مبهرج، فنقّتاهما، بفضل التركيز الّذي فرضته على أفكارها الأكثر عمقًا. والواقع أنّي في الأفلام الخمسة والعشرين أو الثلاثين الّتي شاهدت فيها رقصها كنت أعثر دومًا على تلك البسمة، تضيء المشهد السخيف أو المصطنع. لقد كانت بسمتها نقطة ثابتة في عالم متقلّب.

الحقّ أنّ هذه البسمة تتراءى لي رمزًا لتميّز تحيّة داخل ثقافة طلعت علينا بدزّينات من راقصات أسماؤهنّ من نوع ’زوزو‘ و’فيفي‘، اعْتُبِرَ أكثرهنّ في مرتبة تكاد لا تعلو درجة واحدة على مرتبة العاهرات. ولقد كان هذا أمرًا بارزًا للعيان على الدوام أثناء مراحل الرخاء الاقتصاديّ في مصر، كالأيّام الأخيرة من ولاية فاروق، أو حين أتى الفائض النفطيّ بالخليجيّين إلى مصر، كما أنّ هذا الحكم ينطبق على لبنان حين كان ملعبًا للعالم العربيّ، تتوفّر فيه آلاف البنات للعرض أو الإيجار. وكانت غالبيّة الراقصات الشرقيّات في مثل تلك الظروف من نصيب المزايد صاحب الثمن الأعلى، وكان النادي الليليّ بمثابة واجهة مؤقّتة لعرضهنّ. وكان اللوم في ما آل إليه الوضع ينصبّ على عاتق ضغوطات الثقافة الإسلاميّة المحافظة، وينصبّ كذلك على التشويهات الّتي أحدثتها عمليّة التنمية اللا متكافئة.

فقد كان على المرأة الصالحة الزواج، في العادة، أن تكون مهيّأة للزواج من غير أن تمرّ في فترة تنقّلها بالفعل بعيدًا عن زمن المراهقة. ولذلك فإنّه لم يكن ثمّة مزيّة دائمًا في أن تكون الفتاة صغيرة السنّ وجذّابة، لأنّ الأب التقليديّ قد يرتّب لابنته – بسبب تلك المزيّة تحديدًا – زواجًا من رجل ’ناضج‘ وحسن الأحوال. ولئن أحجمت النساء عن الالتزام بتلك الترتيبات، فإنّهنّ كثيرًا ما يعرّضن أنفسهنّ لكلّ أصناف الخزي.

 

الراقصة ’العالمة‘

لا تنتمي تحيّة إلى الفئة الّتي يسهل تعريفها بفتيات البار أو الساقطات، وإنّما تنتمي إلى عالم النساء المتحرّرات اللواتي يتجنّبن الحدود الاجتماعيّة الضيّقة أو يُزِلْنها. غير أنّ تحيّة بقيت مرتبطة بمجتمعها ارتباطًا عضويًّا؛ ذلك أنّها قد اكتشفت لنفسها دورًا آخر وأشدّ أهمّيّة كراقصة ومغنّيّة. إنّه دور ’العالمة‘ الّذي كان أن ينسى، وهو الدور الّذي تحدّث عنه الرحّالة الأوروبيّون الّذين رأوا الشرق في القرن التاسع عشر، أمثال إدوارد لين وغوستاف فلوبير.

كانت العالمة نوعًا من المحظيّات، بيد أنّها كانت ذات إنجازات بارزة. فالرقص لم يَعُدْ أن يكون واحدًا من هباتها، الّتي شملت المقدرة على الغناء وقراءة الشعر القديم والحديث اللبق؛ وكان رجال القانون والسياسة والأدب يرغبون في رفقة العالمات.

تلقّب تحيّة بالعالمة في أفضل فيلم لها وهو «لعبة الستّ» (1946)، وهو واحد من أوّل أفلامها، ويشترك في بطولته أعظم ممثّل وكوميديّ عربيّ في القرن العشرين، وهو نجيب الريحاني الّذي يمثّل مزيجًا مدهشًا لشخصيّتي شابلن وموليير. في هذا الفيلم تتبدّى تحيّة راقصة شابّة موهوبة فطنة، يستخدمها الأنذال للإيقاع بالرجال الأغنياء. وأمّا نجيب الريحاني، الّذي يؤدّي في الفيلم دور المعلّم العاطل عن العمل، فمولع بها، وهي تحبّه بدورها، لكنّ والديها يغريانها بالثراء من خلال مكيدة توقع بها أحد اللبنانيّين الأثرياء. وتعود تحيّة في النهاية إلى الريحاني، وهي عودة تشكّل نهاية عاطفيّة قلّ أن سمحت بها أفلامها الأخرى.

تقوم تحيّة في الفيلم برقصة قصيرة، لكنّها رقصة رائعة ومثيرة. ومع ذلك، فإنّ تلك الرقصة ليست إلّا حدثًا يكاد أن يكون ضئيلًا بالمقارنة مع موهبتها وذكائها وجمالها.

يبدو أنّ مخرجي الأفلام قد دأبوا منذ ذلك الوقت على تثبيت تحيّة في دور هو نسخة أشدّ فظاظة من ذاك الّذي أدّته في «لعبة الستّ»، وراحت تعيد تأديته في فيلم بعد آخر. إنّها في جميع هذه الأفلام المرأة الأخرى، نقيض البطلة الرئيسيّة الفاضلة والمقبولة اجتماعيًّا والأقلّ إثارة للاهتمام. لكنّ مواهب تحيّة تشعّ حتّى ضمن حدود دورها هذا. فإنّك لتحسّ بأنّها أكثر إثارة للاهتمام، بوصفها رفيقة وعشيقة، من المرأة الّتي تتزوّج الممثّل الأوّل. وإنّك لتبدأ في الاشتباه بأنّ ذكاءها وإغرائها الشديدين هما اللّذان دفعاها لأن تبدو على صورة المرأة الخطرة، المرأة العالمة الّتي يتجاوز علمها وذكاؤها وتطوّرها الجنسيّ حدود أيّ رجل في مصر الحديثة. وما إن حلّت خمسينيّات هذا القرن حتّى كانت تحيّة قد أصبحت نموذج المرأة/ الشيطان في عدد كبير من الأفلام المصريّة.

في «شباب امرأة»، الّذي يعتبر فيلمًا كلاسيكيًّا متأخّرًا، تؤدّي تحيّة دور الأرملة القاسية والمتعطّشة للجنس في آن معًا، فتؤجّر غرفة لرجل ريفيّ شديد الارتباك جاء لتوّه إلى القاهرة للالتحاق بـ «الأزهر»، فتغويه وتتزوّجه، لكنّه يفيق من سحرها السيرسيّ ما إن يلتقي بفتاة ملائكيّة هي ابنة أحد أصدقاء عائلته، فيُنكِرُ تحيّة ويهجرها سعيًا وراء الفتاة الشابّة الآمنة المُضْجِرَة. في هذه الحكاية العاديّة، ثمّة مشهد عظيم واحد تبدو تحيّة فيه وهي تسحب زوجها الشابّ الطالب الغرّ من احتفال وسط الشارع ترقص فيه راقصة شرقيّة شابّة أسرت فؤاده. فتأخذه تحيّة إلى منزلهما، وتُجلِسُه، وتخبره بأنّها سوف تريه الآن ما يكون عليه الرقص الأصيل. وتقوم أمامه بعرض خاصّ ملتهب، مثبتة أنّها – بغضّ النظر عن سنّها – ما تزال الراقصة الأشدّ براعة وذكاء وأنّها أكثر الأشياء الجنسيّة اشتهاءً.

 

مصر الساداتيّة

لقد افترضت – شأني في ذلك شأن الكثير من المغتربين الّذين مثّلت تحيّة بالنسبة إليهم واحدًا من الرموز الجنسيّة العظيمة في شبابهم – أنّها سوف ترقص إلى الأبد تقريبًا. لكنّ تأمّل الصدمة العنيفة الّتي واجهتُها حين عدت في صيف عام 1975 إلى مصر بعد خمسة عشرة سنة على غيابي عنها، فعلمت أن أطول التمثيليّات الكوميديّة عرضًا في القاهرة إنّما هي من بطولة تحيّة كاريوكا، وآخر أزواجها فائق حلاوة الّذي كان، بالإضافة إلى ذلك، مؤلّف تلك التمثيليّة الّتي اسمها «يحيا الوفد».

في الليلة الثانية لوصولي إلى القاهرة، ذهبت إلى سينما ميامي القديمة، الّتي غدت اليوم مسرحًا صيفيًّا، وكلّي حماس وترقّب قلبيّ لأن أستعيد، في هذه الفرصة الفريدة، جزءًا من شبابي الّذي كاد أن يدفن. كانت المسرحيّة هزليّة شديدة الطول والابتذال، تحكي قصّة قرويّين مصريّين قد فُرِضَ عليهم وفد مؤلّف من خبراء زراعيين سوفييت. وعرضت المسرحيّة، بقسوة، سماجة الروس الصارمة، وكان السادات قد طرد المستشارين الروس عام 1972، وتغنّت في الوقت نفسه بفضح المصريّين الفطن لمخطّطاتهم. وقد بدأت المسرحيّة حوالي الساعة التاسعة والنصف مساءً، لكنّي لم أستطع أن أتحمّل سوى ساعتين ونصف الساعة، أي ما يعادل نصف دوام المسرحيّة، من مزاحها الأحمق.

لم يكن ما آلت إليه تحيّة جزءًا ضئيلًا من خيبتي آنذاك. فقد كانت تؤدّي دور القرويّة الأكثر فظاظة وصراخًا، وقد أُجِّرَ كبشها الممتاز للإلقاح، وكان ثمّة الكثير من النكات الّتي يسهل التنبّؤ بها، وهي تدور حول العجز الجنسيّ. غير أنّ مظهر تحيّة وأسلوبها هما اللّذان سلباني أنفاسي. فلقد غابت المغرية السمراء المصفرّة، الراقصة الرشيقة الحافلة بالأناقة والإيماءات بارعة التنفيذ، وتحوّلت إلى قبضاي يزن مئتين وعشرين رطلًا. كانت تقف، ويداها فوق وركيها، تكرّ الشتائم، وتقذف بأغلط النكات القصيرة وأقرب التوريات، بأسلوب صخّاب مجاحش يكاد أن يكون غير أهل للمشاهدة؛ كلّ ذلك في خدمة ما بدا أنّه أقبح نمط من السياسات المعادية لعبد الناصر والموالية لأنور السادات ولاءً انتهازيًّا. لقد كانت تلك مرحلة حاولت فيها السياسة المصريّة أن ترضي هنري كيسنجر، فابتعدت عن التزاماتها التقدّميّة والعربيّة والعالم ثالثيّة الّتي طبعت حكم عبد الناصر بعد عام 1954. ولقد أحزنني أن أرى تحيّة وزوجها الهزيل الصغير منخرطين في عمل من هذا النوع.

 

في ضيافة ’العالمة‘ شبه المتقاعدة

خلال الأربعة عشر سنة الّتي تلت زيارتي إلى مصر، أضفَتْ المعلومات الجديدة – الضئيلة والكبيرة – تعقيدًا على صورة تحيّة. فلقد أخبرني عالم اجتماع مصريّ شهير، مثلًا، أنّ تحيّة قد كانت خلال الأربعينيّات والخمسينيّات شديدة القرب من الحزب الشيوعيّ، وقال إنّ تلك الفترة قد كانت فترة "التجذّر عند الراقصات الشرقيّات". وفي عام 1988، علمت أنّها ظهرت في أثينا من ضمن مجموعة من الفنّانين والمثقّفين العرب الّذين وقّعوا أسماءهم للالتحاق بسفينة «العودة الفلسطينيّة» الّتي كانت تهمّ برحلة رمزيّة إيابيّة إلى الأرض المقدّسة؛ غير أنّ عوارض السوء توالت أسبوعين، فجّرت بعدهما المخابرات السرّيّة الإسرائيليّة الباخرة فتعطّل المشروع. سمعت بعد ذلك أنّ تحيّة قد برزت بوصفها واحدة من قيادات نقابة ممثّلي السينما والمخرجين والمصوّرين؛ وهي نقابة متطوّرة من الناحية السياسيّة وشديدة الجهر بآرائها. إذن ما تراه كانت حقيقة الراقصة الّتي بلغت الآن الخامسة والسبعين من عمرها، وتبوّأت منصبًا عاليًا يكاد أن يكون جزءًا من المؤسّسة الراسخة في ثقافة المرحلة الّتي أعقبت السادات في مصر نهايات القرن العشرين؟

لقد أعانتي صديقة لتحيّة وهي صانعة الأفلام التوثيقيّة نبيهة لطفي، على الاتّفاق مع تحيّة على موعد لرؤيتها. فإذا بها تعيش اليوم في شقّة صغيرة تبعد قليلًا عن المكان الّذي شاهدتها ترقص فيه قبل أربعين سنة. رحّبت بي وبنبيهة باحترام مهيب لم أكن أتوقّعه. كانت متّشحة بسواد قشف ومُطْراة بإتقان، لكنّها – مثل أيّ امرأة مسلمة تقيّة – كانت تغطّي ذراعيها بكمّين طويلين، وتكسو ساقيها بجاربين داكنين. وبدت أقلّ ضخامة ممّا كانت عليه في السابق، وخلت من الابتذال. إنّها توحي الآن برزانة وسلطة تنبعان من كونها قد كانت أعظم بكثير من مجرّد راقصة شرقيّة. ولعلّها أن تكون أسطورة حيّة، أو حكيمًا شهيرًا: إنّها العالمة شبه المتقاعدة.

خاطبتها نبية لطفي بلقب ’الحاجّة‘، وهو نعت إسلاميّ يطلق على النساء الكهلات اللّواتي حججن إلى مكّة. ولقد تعزّزت هذه التسمية لا بفضل مظهر تحيّة البالغ العفّة وحده، وإنّما كذلك بفضل اللوحات المتعدّدة لمكّة المعلّقة على حائط منزلها، وبفضل المصحف الّذي تسهل رؤيته على الطاولة القريبة. وإذ جلسنا نتناقل أطراف الحديث، فإنّ حياتها قد راحت تمرّ أمامنا شريطًا مهيبًا.

تنحدر تحيّة محمّد كريم من عائلة إسماعيليّة لها باع طويل في السياسة. عمّها قتله البريطانيّون، ويحمل ثلاثة على الأقلّ من أفراد عائلتها – على نحو ما تابعت تحيّة حديثها بافتخار – اسم نضال. وقضى أبوها بعض الوقت في السجون. غير أنّ تحيّة بدت منافقة بعض الشيء في وصفها لأحاسيسها أثناء الرقص، حين قالت إنّها تشعر كمن يكون في معبد. ومع ذلك، فقد بدا مع توالي حديثها أنّها تؤمن بأنّ رقصها قد كان عملًا يتجاوز مجرّد استهواء الرجال، وهو ما تفعله أيّ مغنيّة عاديّة. وقالت باقتناع كلّيّ: "إنّ حياتي، راقصة جميلة وأنا أحبّها". لقد عدّت تحيّة نفسها، وهي على حقّ في ما أزعم، جزءًا من نهضة ثقافيّة كبيرة، من حركة انبعاث قوميّ في الفنون مستندة إلى حركة سعد زغلول الاستقلاليّة الليبراليّة وثورته عام 1919؛ وضمّت الوجوه الفنّيّة في مَنْ ضمّت كتّابًا كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين، ومغنّين كمحمّد عبد الوهاب وأمّ كلثوم، وممثّلين كسليمان نجيب والريحاني.

درست تحيّة الرقص، صبيّة، على يد بديعة المصابني، الّتي نصحتها بألّا تتسكّع في النوادي الليليّة والبارات عند الانتهاء من تقديم وصلتها. وأضافت تحيّة بكآبة أنّها قد وجدت صعوبة كبيرة في تعلّم استعمال الصنوج، لكنّها نجحت في آخر الأمر في ذلك بفضل بديعة، وهي المرأة الّتي تحدّثت عنها تحيّة بحبّ وتبجيل.

عندما أُحْضِرَ الشاي والبسكويت، سألتها أن تتحدّث عن حياتها السياسيّة، فكان ما قالته يفوق التصوّر؛ ذلك أنّي تحقّقت للمرّة الأولى أنّها كانت على الدوام منتمية إلى اليسار الوطنيّ – قالت إنّ عبد الناصر سجنها في الخمسينيّات لانتسابها إلى «رابطة السلام»، وهي منظّمة موالية لموسكو، ولأنّها تستصغر شأن قادة مصر الحاليّين كذلك – ثمّ سألتها عن مسرحيّة «يحيا الوفد» فقالت إنّه على الرغم من أنّها قد اعتُبِرَت مسرحيّة ساداتيّة، إلّا أنّها، أي تحيّة، تعتبرها مسرحيّة تتحدّث بشكل أساسيّ عن استعداد المصريّين الدائم للاعتقاد بأنّ الأجانب "أفضل منّا".

غير أنّ هذا التبرير المفتقر إلى الإقناع، لما كنت أؤمن بأنّه عمل يخدم أنور السادات بشكل واضح، قاد تحيّة إلى خطبة لاذعة ضدّ زوجها السابق فائق حلاوة الّذي شكت من أنّه قد جرّها من كارثة إلى أخرى. وتساءلت: "ولماذا تعتقد أنّني أعيش هنا لا في منزلي؟ لقد أخذ منزلي، وأخذ كلّ ما فيه، بما في ذلك صوري وأفلامي، وتركني خالية الوفاض". وسرعان ما أخلى عنصر الشفقة مكانه للحيويّة، حين سألتها عن الولايات المتّحدة الّتي كانت قد زارتها عدّة مرّات؛ بل إنّه قد سبق لها أن قطعت أمريكا بالسيّارة في رحلة عدّتها رائعة، فأجابت: "لقد أحببت الناس في أمريكا، لكنّي أكره سياسة حكومتهم".

 

قلب مستعدّ للاحتفال بأيّ شيء

أن يتحدّث إلى هذه المرأة المسنّة الجليلة امرؤ نشأ على الأفلام المصريّة من غير أن يعرف الكثير عن خلفيّاتها، وأن يكون رقص تحيّة بالنسبة له ذكرى غنيّة ولكنّها بِكْر نسبيًّا، لهو أمر مبهج. لقد كانت تحيّة نبعًا من المعلومات عن تشكيلة ضخمة من الموضوعات تحدّثت عنها جميعًا بدفء وظَرَفٍ وسخرية شديدة الجاذبيّة. وذات لحظة قطع حديثها دعاء المؤذّن للصلاة، منبعثًا من مئذنة جامع قريب، هدّارًا يشقّ الآذان. وللتوّ توقّفت تحيّة عن الكلام، فأغمضت عينيها، ومدّت ذراعيها، بحيث قابلت راحتاها الأفق، وراحت ترافق المؤذّن في تلاوة الآيات القرآنيّة، وما إن توقّفت الأدعية حتّى انفجرت بسؤال كنت قد كتمته في نفسي زمنًا طويلًا، لعلّه أن يعود إلى اليوم الّذي رأيتها فيه ترقص عام 1950: "كم مرّة تزوّجت؟". كان سؤال هذا أقرب ما توصّلت إليه من حيث طلبي منها أن تربط بين حسّيّة رقصها وبسمتها المدهشة تلك، وحياتها الخاصّة.

تبدّلت ملامحها تبدّلًا صاعقًا، وما أنْ أنهَتْ أدعيتها حتّى استقامت في جلستها ردًّا على سؤالي، وانتصب مرفقها باستفزاز في وجهي، في ما راحت ذراعها الأخرى تلوّح في الهواء على نحو خطابيّ. "عدّة مرّات"، ردّت بحسم، متّخذًا صوتها صفة الصفاقة الّتي يقرنها المرء عادة بفتاة ليل. وبدت عيناها ونبرتها وكأنّها تضيف قائلة: "وماذا يهمّ؟ لقد عرفت الكثير من الرجال"، وهنا حاولت نبيهة، القلقة دومًا، أن تخرجنا من هذا المأزق الصغير فسألتها عمّن أحبّت من أولئك الرجال أو أثّر فيها. فردّت بقسوة: "لا أحد منهم على الإطلاق، كلّهم كانوا أولاد زنا"، وأعقبت إعلانها هذا بسلسلة من تجديفات. وبعيدًا عن استسلام الشيخوخة الورع وتجرّدها، فقد كشف هذا الجيشان عن إنسان فردانيّ ومحارب. ومع ذلك فإنّ المرء ليشعر برومنطيقيّة امرأة خُدِعَتْ مرارًا لكنّها بقيت على استعداد لأن تقع في الحبّ من جديد لو أعطيت الفرصة لذلك.

لقد أرخت أمامنا متاعب تحيّة الأخيرة مع رجل، هو النذل فائق حلاوة، بتفصيل لا يعرف الرحمة. وعلى الرغم من ذلك فقد كان تعاطفنا معها كاملًا، وكان الأمر كذلك حين طاردت تحيّة ونبيهة موزّع أفلام ثريّ كان يسعى إلى التلاعب بأمور النقابة. "آه من الرجال"، تنهّدت، وتطلّعت إليّ بفضول.

لقد عرفت تحيّة أنماط عالمها وأشكاله، والتزمت بها إلى حدّ بعيد. فقد كانت ابنة مطيعة في الماضي، وهي الآن عجوز مسلمة تقيّة. ومع ذلك فإنّ تحيّة قد كانت شعارًا لكلّ ما كان غير محكوم ومضبوط وغير موظّف في ثقافة عصرها؛ وللقيام بمثل هذه المهمّات فقد كانت مهمّة العالمة والراقصة والممثّلة الخارقة حلًّا ممتازًا. وكنت تشعر بالثقة الّتي أضفتها على علاقتها بمراكز السلطة، بالتحدّث الّذي تقوم به امرأة حرّة. وعندما ذهبت إلى أرشيف السينما المركزيّ في القاهرة في اليوم التالي للبحث عن موادّ مصوّرة ومكتوبة عن تحيّة لم أجد إلّا خرائب؛ شقّة صغيرة في قلب المدينة التجاريّ، تحتوي على عمّال يتجاوز عددهم حاجة العمل، وتصاميم غامضة تؤرّخ لتاريخ مصر الفنّيّ الغنيّ يتجاوز عددها الخطط الفعليّة المعدّة لتفنيذ العمل. عندها، وجدت أنّ تحيّة هي تاريخها ذاته، وهو تاريخ يكاد أن يكون عديم التوثيق، لكنّه تاريخ لمّا يزل جليل الحضور هدّامًا.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.